الأحد، 8 نوفمبر 2009

القابضات على الجمر ..


..أسرعت الخطا وأنا أدخل بوابة الجامعة التونسية..رغما عني تذكرت أيامي بها عندما كنت شابا..
قد تخللت دعوة الإسلام في شرايينه..أهتف ..خيبر خيبر يا يهود ..جيش محمد سوف يعود..
وها آنذا عدت إليها ضمن إطار تبادلي بين جامعتي الفرنسية التي أعمل أستاذا بها وبين الجامعة التونسية..
مازلت أمقت الحرس الرابض علي مداخلها يحصي الأنفاس ويتتبع الخطا..
لفت نظري عندالباب إيقاف الحرس لإحدي الطالبات..وقفت قريبا من المشهد لأراه جيدا ..كان يفتش حقيبتها بعنف بالغ ..
كانت قد جمعت شعرها إلي الخلف ترتدي لباسا محتشما جدا..ذات وجه أقل مايقال عنه أنه نوراني..
كان الحارس يقول ..أين أخفيته هذه المرة ؟
قالت بهدوء مستفز:ماتبحث عنه في قلبي..أخرجه إن استطعت..
وهي تغادره قالت : مقدم شكيب ! موعدنا يوم الحساب كالمعتاد..
قال لها : عندما يأتي..قالت:سوف يأتي..وغادرته..
لأول مرة أشاهد هذا المنظرأمامي..تذكرت ابنتي عائشة وهي تجادل أستاذها علي الحجاب الذي منعها هو أن تحضر محاضرتها به..وأصرت علي الحضور..وخضع هو تجاه الأمرفي النهاية.
.لكنني لا أعتقد أن الأمر كان له صلة بالحجاب ..
قطع تفكيري نداءه إياها : أسماء أبلغي أخوك القاسم أن فصله لم ينته ولن يدخل الجامعة هذا الأسبوع وأنا حي..
قالت بضيق: القاسم لن يأتي هذا الأسبوع..ارتاحوا.
.فاجأني عندما دخلت القاعة الدراسية أن وجدتها في الصف الأول..كنت أدرسهم مادة الرياضيات في كلية الهندسة..
.سألني أحد الطلبة بتهكم ..بروف ! ماعلاقة الرياضيات باللحية..رحم الله أيام بورقيبة..حلق لحي الإخونجية جميعا..
كان طالبا من المحسوبين علي النظام السياسي..وكنت قد بلغت مرحلة عمرية تجعلني أتجاوز أمثاله.
.فابتسمت وقلت..رحم الله الجميع..هذا ليس موضوعنا نكمل ما بدأناه..
قال باستهتار بالغ..أسماء يا قيرواني مبروكة عودتك بعد الفصل..عقبي للقاسم.. دعي الغنوشي وشركاه ينفعوكم في المجلس التأديبي القادم.
.قلت مباشرة: أمين! إلي الخارج إن لم تحترم المحاضرة.
.قال : سكتنا ..رحمتها في نفسي ..
علي موقفها عند الباب ثم هذا المعتوه.. ابتسمت في وهن ..ثم عادت للتركيز في المحاضرة وهي تغادر وجدتها تلصق ورقة أذكار علي الباب قبل أن تخرج..
شاء الله لي أن أراها عند بوابة الخروج اتجهت إلي أحد المحلات القريبة وتحادثت مع البائعة لدقائق ثم خرجت وهي ترتدي الحجاب ..
كان هذا حال أسماء ..كل يوم..توقيف من الحرس وتهكم من بعض زملائها..
بعدها بأسبوع وجدتها جالسة مع شاب ملتح وكان يضاحكها ويحاول تخفيف أمر ماعلي نفسها..
مررت وتعمدت أن أسألها كيف حالك يا أسماء؟ وقفت وقالت : الحمد لله..بروف هذا أخي القاسم..يدرس معنا قلت له: كنت مفصولا..
ابتسم وقال شهر ..أسماء أسبوعين إدارة الجامعة تطبق الشريعة في هذا الأمر...
تأملت فيه ..مرح يكسر الظلمة المحيطة به...قلت له..محاضرتكم الآن..أم أن الرياضيات لا تلقي قبولا لديكما..
قال قاسم: أقسم بالله فيثاغورس ينتحر غيظا لو رأي عبقريتنا ..ستراها يا بروفيسور..
.ابتسمت وقلت سنري يا آل القيرواني..زادت معرفتي بهما ..
والدهما في المعتقل..والدتهما توفيت ويعيشان مع جدهما الشيخ الذي درس في الزيتونة..
.لكن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه..أسماء وقاسم يحفظان القرآن كاملا..من القابضين علي الجمر حقا..
.قالت لي أسماء عندما سألتها عن الحجاب: وازنت أنا وجدي وأخي المصالح والمفاسد وانتهينا إلي أن أخلعه في الجامعة..
لن يستفيد الإسلام مني وأنا جاهلة ..ثم أنا في الشتاء أتذرع بالبرد وأرتدي قبعة.. حسبنا الله ونعم الوكيل..
قلت لها: تذكري يا ابنتي ..إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..أدمعت عيناها وقالت: أضعف الإيمان يا أستاذي..
.الجئوني إلي أضعف الإيمان..قلت لها ..بل أقوي الإيمان ياأسماء...ولتعلمن نبأه بعد حين..
بدأ ارتباك الأوضاع من جديد في الجامعة..لم أحس قط بأهمية الجنسية الفرنسية إلا وأنا في تونس..هذا من القهر أليس كذلك؟ أن تكون أوراقك الرسمية التي لم تؤمن بها أبدا ..أحن عليك من انتماءك الحقيقي..
لا بأس..هكذا هي الدنيا..كانت الجنسية سببا في حمايتي من الإعتقال أو التنكيل وإن كنت قد هددت من قبل شكيب وأعوانه بشتي الطرق..
.أما القاسم فقد اعتقل من جديد ..وإلي أجل غير مسمي...ذهبت إلي بيت جدهما..
.فتحت لي أسماء وكأنها تتجلد أو تصبر لكنها لا تستطيع..قال جدهما أخذوه هو وثمانية من إخوانه..
من بيت أحدهم..قالت أسماء: لا سامح الله من أخذهم أبدا..
.قلت: لا يا أسماء..لا يا بنتي..أنت بلسم لكل من لا يعرف الطريق..أنت النور لهم..رحمة لهم لا لعنة عليهم..
مضت عدة أشهر علي اعتقال القاسم وإخوانه..جاءت أسماء إلي مكتبي وأخبرتني أن والدها يريد أن يراني..ذهبت إلي زيارته في السجن ..كان في سجن آخر غير سجن القاسم..
كأن ملامح القاسم نحتت عن وجهه إلا أن لحيته قد ابيضت قليلا وعوج قليل في أنفه..
نفس الإبتسامة التي عرفتها في ولديه..أخبرني بأن أحد إخوة القاسم في المعتقل أفرج عنه وكان طبيبا قد تقدم لخطبة أسماء..
وأن أسماء ربطت الموافقة بي وبجدها..سألته أن أقابل الشاب ثم أخبره برأيي ..وقابلت مهدي..هذه النفس الزكية النقية ..والروح العلية ..أعجبت جدا به ..وأبلغت أسماء ووالدها برأيي ..وتم عقدهما ووالدها والقاسم فى السجن ..
بعد زواج مهدى وأسماء بأيام قليلة انتهت بعثتى وغادرت الى فرنسا ..وكانت أخبارهما تصل الى ..
.خرج قاسم من السجن بعد أربعة أشهر مريرة ..وتم زفاف أسماء أخيرا ..
وما زالا على العهد ..تخرجا سويا ..وكان مهدى كما توقعت مساندا لها ..تشتد الرياح عليهما احيانا ..
وكم مرة اخذ مهدى وقاسم الى المعتقل ..يوما أويومين ..أو ربما عدة أشهر ..
مازالت أسماء يضايقها العسكر على حجابها فى الشارع ..وترد عليهم بأن مردنا الى الله ..
مازالت أسماء تلقى درسها الصغير ..خمس دقائق فقط لمن يصلين معها فى التراويح ..وتخرج مسرعة ..
.تتنقل فى رمضان من مسجد الى آخر ..مازالت أسماء ..تذهب الى جاراتها ..تعلمهن شيئا من عبير الدعوة ..أنجبت صغيريها ..راشد ونهضة ..
تيمنا بعلمى حياتها ..راشد الغنوشى ..وحركة النهضة ..
.تقرئ صغيريها القرآن ..تجعلهما المنابع فى زمن تجفيف المنابع ..تجعلهما النور اذا حجبوا النور ...
.بألأمس حادثتها ..وحادثت مهدى ..وصوت راشد يردد خلف أمه .." يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ...
وأوقن كل وقت ..أن القابضات على الجمر باقيات ..وغدا يستحيل الجمر وردا ..